عندما نتحدث عن الفنون المعمارية التي تمثل الهوية الثقافية للمغرب، يبرز الزليج المغربي كواحد من أبرز رموز الإبداع والجمال. هذه الحرفة التقليدية التي تمتد جذورها لقرون طويلة ليست مجرد قطع من الفسيفساء، بل هي لوحات فنية متقنة تحكي قصصًا من التاريخ والثقافة المغربية العريقة. من القصور الملكية إلى المساجد العتيقة، ومن المنازل التقليدية إلى الساحات العامة، استطاع الزليج المغربي أن يغزو العالم بجماله الفريد وتقنياته الدقيقة. انضم إلينا في هذا المقال لاستكشاف أسرار هذه الحرفة المذهلة وتاريخها العريق، ولماذا يظل الزليج مصدر إلهام للفنانين والمعماريين حول العالم.
الزليج إرث فني ومعماري عالمي
الزليج المغربي في المعالم العالمية
من مسجد باريس الكبير الذي شيّدته سواعد المغاربة وزُيّنت جدرانه بأناملهم المبدعة في بداية القرن العشرين، إلى الجناح المغربي في "وود ديزني" بمدينة "أورلاندو" بالولايات المتحدة، حيث تتألق السقايات والنوافير ذات الطراز المغربي الفريد. كما نجد بصمة الزليج المغربي واضحة في القصر الرئاسي في "ليبرفيل" عاصمة الغابون، وفي أفخم القلاع الصحراوية بولاية "كاليفورنيا" في الولايات المتحدة.
ولا يمكن إغفال قصر العلم السلطاني في مسقط، سلطنة عمان، حيث يستقبل السلطان "هيثم بن طارق" كبار ضيوفه في أجواء تزدان بالزليج المغربي التقليدي. هذا الفن المغربي الأصيل أصبح عنصرًا ينافس جميع أنواع الديكورات الفنية والمعمارية حول العالم، مشكلًا رمزًا للتميز والجمال.
الزخارف المغربية: إبداع وأصالة
الزليج الفاسي المغربي ليس مجرد قطع من الطين المزخرف، بل هو تعبير عن ثقافة مغربية عريقة. تتميز هذه الزخارف بنقوشها الدقيقة وأشكالها الهندسية المتناغمة، مثل المربعات، المثلثات، والنجمة الثمانية التي زينت العلم المغربي بين عامي 1248 و1659 ميلادية في عهد الدول المرينية، الوطاسية، والسعدية. هذه الزخارف تحمل دلالات روحية ودينية تعكس الهوية المغربية بعمق.
تاريخ الزليج المغربي
ظهر الزليج لأول مرة في المغرب خلال القرن العاشر الميلادي، وكان يتميز آنذاك بألوان الأبيض والبني. في القرن الرابع عشر، ازدهرت صناعة الزليج بشكل ملحوظ في عهد الدولة المرينية، حيث أُضيفت ألوان جديدة مثل الأزرق، الأخضر، والأصفر. في القرن السابع عشر، انضم اللون الأحمر إلى هذه اللوحة الفنية، مما أضفى مزيدًا من التنوع والإبداع على هذه الصناعة التقليدية.
على الرغم من الادعاءات بأن الزليج مستوحى من الفسيفساء الرومانية أو البيزنطية، إلا أن الزليج المغربي يتميز بطابع خاص يجعله مختلفًا تمامًا. فبدلًا من تصوير البشر أو الحيوانات، كما هو الحال في الفسيفساء الرومانية، اعتمد الحرفيون المغاربة على الأشكال الهندسية لتجنب مخالفة التعاليم الإسلامية التي كانت ترفض تصوير الكائنات الحية في الفن.
صناعة الزليج المغربي: رحلة من الطين إلى التحف الفنية
استخراج الطين وعجنه
يبدأ إنتاج الزليج المغربي باستخراج الطين من مدينة فاس، التي تُعد موطنًا لأفضل أنواع الطين المستخدم في هذه الصناعة. يتم جمع الطين في كتل كبيرة تُغمر في صهاريج تُعرف بـ"الزوبا" لمدة يوم وليلة. بعد ذلك، يُعجن الطين يدويًا وبالأقدام حتى يصبح ناعمًا وخاليًا من الشوائب.
التشكيل والتجفيف
بعد العجن، يُقطع الطين إلى قوالب مربعة تُمدد تحت أشعة الشمس حتى تجف تمامًا. تختلف مدة التجفيف حسب الطقس. بمجرد أن تجف القوالب، تُسطح باستخدام مطرقة خشبية، ثم تُقسّم إلى مربعات صغيرة بأبعاد 10x10 سم.
الحرق الأول والتلوين
تُدخل القوالب إلى الفرن للمرة الأولى لتصبح صلبة. بعدها، تُغمس واجهاتها في مزيج الطلاء، الذي يتكون من الرصاص، الرمل، وأكاسيد الألوان. ثم تُعاد القوالب إلى الفرن للمرة الثانية، حيث تصل درجة الحرارة إلى 800 درجة مئوية، مما يُكسب الزليج ألوانه المميزة مثل الأبيض، الأسود، الأزرق، الأخضر، الأصفر، والبني.
التصنيف والتجميع
بعد الحرق الثاني، تُفحص المربعات بعناية للتأكد من جودتها، ثم تُصنف حسب ألوانها وأشكالها الهندسية. هذه المرحلة تتطلب دقة كبيرة لضمان انسجام القطع عند تركيبها في الزخارف النهائية.
![]() |
هناك عدة مراحل لصناعة الزليج التقليدي المغربي |
الزليج المغربي: عالمية منذ القدم
تصدير الزليج المغربي
منذ القرن الثامن عشر، بدأت عائلات مغربية عريقة مثل الحبابي، بنجلون، ولحلو بتصدير الزليج المغربي إلى أوروبا. وفي عام 1915، تأسست أول شركة لنقل الزليج المغربي عبر ميناء الدار البيضاء، ليصل إلى دول مثل فرنسا، بريطانيا، البرتغال، وإيطاليا. كان الزليج يُصدّر بعلامة "صنع في المغرب"Made in morocco باللغة الإنجليزية، مما يعكس مكانته العالمية.
الزليج بين المغرب والأندلس
على الرغم من المزاعم بأن الزليج المغربي له أصول أندلسية، إلا أن الأدلة التاريخية تثبت عكس ذلك. فقد تم اعتماد هذا الفن في المغرب قبل الأندلس، وهو ما يفسر انتشاره الواسع في المدن المغربية مقارنة بالأندلس، حيث يقتصر وجوده على القصور والمساجد. يُعد الزليج المغربي جزءًا لا يتجزأ من التراث المغربي، ولا يمكن فصله عن الهوية المغربية.
النافورة المغربية: تحفة فنية في المعمار المغربي
تُعتبر النافورة أو السقاية المزينة بالزليج التقليدي من أبرز معالم المعمار المغربي. توجد هذه النوافير في المنازل، الرياض، القصور، والمساجد. تتميز بتصاميمها الهندسية المتقنة وألوانها المتناسقة التي تضفي لمسة من الجمال والهدوء على المكان.
اعتراف الملكية الفكرية بمغربية الزليج من اليونيسكو
في إطار الجهود المبذولة للحفاظ على التراث الثقافي المغربي، تم الاعتراف دوليًا بملكية المغرب للزليج المغربي من خلال المنظمة العالمية للملكية الفكرية (الويبو) في عام 2016. هذا الاعتراف يُعد خطوة مهمة في حماية هذا الفن العريق من محاولات السطو والاستيلاء الثقافي.
خلال اجتماع عقد في جنيف بين وزير الشباب والثقافة والتواصل المغربي، محمد المهدي بنسعيد، والمدير العام للمنظمة الدولية للملكية الفكرية، "دارين تانغ"، تمت مناقشة قضايا حماية التراث الثقافي المغربي. وشمل ذلك الزليج المغربي، الذي يُعتبر جزءًا أساسيًا من الهوية الثقافية للمغرب وفن العيش فيه.
وتأتي هذه الجهود بالتعاون مع منظمة "اليونسكو"، التي تلعب دورًا رئيسيًا في الحفاظ على التراث الثقافي العالمي. زيارة رئيسة الجمعية العامة لليونسكو، سيمونا ميريلا ميكوليسكو، إلى مدينة تطوان سلطت الضوء على أهمية الزليج التقليدي المغربي كجزء من هذا التراث، مما يعزز الاعتراف الدولي بجذوره المغربية.
أسئلة شائعة
1. ما هو الزليج المغربي؟
- الزليج المغربي هو نوع من الفسيفساء المصنوعة من قطع صغيرة من الطين المزخرف، والتي تُستخدم في تزيين الجدران والأرضيات في المعمار المغربي. يتميز الزليج بتصاميم هندسية معقدة وألوان زاهية، ويُعتبر جزءًا من التراث الثقافي والفني للمغرب.
2. ما هو تاريخ تطور الزليج المغربي؟
- يعود تاريخ الزليج المغربي إلى القرن العاشر الميلادي، حيث بدأ في الظهور في المغرب كفن معماري. في القرن الرابع عشر، شهد الزليج المغربي ازدهارًا كبيرًا في عهد الدولة المرينية، حيث أُضيفت ألوان جديدة مثل الأزرق والأخضر. مع مرور الوقت، أصبح الزليج أكثر تنوعًا وتعقيدًا، وأصبح جزءًا أساسيًا من المعمار المغربي.
3. كيف يُصنع الزليج المغربي وما هي المواد المستخدمة في إنتاجه؟
- يُصنع الزليج المغربي من الطين الذي يُستخرج من مدينة فاس المغربية. يتم عجن الطين يدويًا ثم يُقطع إلى قوالب صغيرة تُجفف تحت أشعة الشمس. بعد ذلك، تُحرق القوالب في فرن لتصبح صلبة، ثم تُغمس في مزيج من الطلاء المكون من الرمل وأكاسيد الألوان. بعد الحرق الثاني، يتم تصنيف القطع حسب الألوان والنقوش.
4. هل الزليج المغربي له أصول أندلسية؟
- على الرغم من بعض الادعاءات بأن الزليج المغربي له أصول أندلسية، إلا أن الأدلة التاريخية تشير إلى أن الزليج تطور في المغرب قبل الأندلس. تم استخدام الزليج في المغرب منذ القرن العاشر، بينما لم يُستخدم في الأندلس إلا في وقت لاحق، مما يؤكد أن الزليج هو جزء من التراث المغربي الأصيل.
5. ما هي أبرز المعالم التي تحتوي على الزليج المغربي؟
- الزليج المغربي يوجد في العديد من المعالم الشهيرة حول العالم. من أبرزها مسجد باريس الكبير، الجناح المغربي في وود ديزني في الولايات المتحدة، قصر العلم في مسقط، سلطنة عمان، والقصر الرئاسي في ليبرفيل، الغابون. كما يُستخدم الزليج في القصور والمساجد المغربية مثل قصر البديع في مراكش.
خاتمة
الزليج المغربي ليس مجرد فن معماري، بل هو رمز للهوية المغربية التي استطاعت أن تترك بصمتها على الساحة العالمية. من القصور والمساجد إلى المنازل العصرية، يبقى الزليج المغربي شاهدًا على عبقرية وإبداع الحرفيين المغاربة. هذا الإرث الفني العريق يستحق كل التقدير والاهتمام، فهو يمثل جزءًا من تاريخ وثقافة المغرب العظيمة.