معركة وادي المخازن: اعضم ملحمة التي خاضها المغاربة على مر تاريخ

تُعد معركة واد المخازن، أو ما يُعرف أيضًا بـ معركة الملوك الثلاثة، واحدة من أبرز الأحداث التاريخية التي سطّرت صفحات مشرقة في تاريخ المغرب. لم تكن هذه المعركة مجرد مواجهة عسكرية عابرة، بل كانت نقطة تحوّل حاسمة، أعادت رسم ملامح القوى السياسية في المنطقة، وخلّدت اسم المغرب في سجلّات المجد. كيف استطاع المغاربة بقيادة السعديين تحقيق هذا الانتصار العظيم؟ وما هي ملابسات سقوط ثلاثة ملوك دفعة واحدة في ساحة المعركة؟ دعونا نغوص معًا في تفاصيل هذه الملحمة التاريخية التي حملت بين طياتها دروسًا لا تُنسى عن الشجاعة، القيادة، والكرامة الوطنية.

معركة وادي المخازن: اعضم ملحمة التي خاضها المغاربة على مر تاريخ
عانت المغرب من أزمة طويلة في القرن الخامس عشر ووائل القرن السادس عشر، فالاحتلال البرتغالي لمعظم الموانئ البحرية في المغرب تسبب في العديد من الاضطرابات الاقتصادية والسياسية والثقافية. ولم يتفاقم هذا الانحدار إلا عندما تولى الوطاسيون السلطة سنة 1472، حيث لم يفعلوا الكثير لمحاولة تحسين البلاد، مما أدى في النهاية إلى انهيار التجارة وتدهور التعليم وركود النمو الاقتصادي، وبسبب سياسة الوطاسيين التصالحية تجاه المماليك الكاثوليكية في الشمال.

نشوء الدولة السعدية

نشأت الدولة السعدية في جنوب المغرب عام 1510, عازمة على استعادة النظام والحد من الطموحات التوسعية للمماليك الإيبيرية.

كانت هناك ثلاث أسباب لنشوء الدولة السعدية في جنوب المغرب:

أولاً: تعدي البرتغاليين على الأراضي الداخلية المغربية. 

ثانيًا: أصبحت طرق التجارة الصحراوية التي تعود إلى قرون والتي كانت جزءًا مهمًا من الاقتصاد المغربي تواجه تحديًا من قبل القراصنة الأوروبيين المدعومين من ملوك أوروبا والذين حاولوا بقوة احتكار التجارة من خلال إنشاء مراكز تجارية في مواقع استراتيجية على طول ساحل المحيط الأطلسي. وقد كان استبدال الطرق البرية الصحراوية بالطرق البحرية السريعة يمثل ميزة كبيرة بالنسبة للأوروبيين، وأدى هذا إلى انهيار الاقتصاد المحلي. 

ثالثًا: خشي الشرفاء السعديون ما أسموه بالخطر العثماني.

الخطر العثماني على المغرب

طرد البرتغاليين والقضاء على بنو وطاس

كانت الإمبراطورية العثمانية في أوج ذروتها، إذ امتدت مساحتها على ثلاث قارات، وكان هناك عدد قليل من الدول التي تستطيع أن تقف في طريق توسعها الشرس. وكان للقسطنطينية طموحات في المغرب بعد أن دعمت الوطاسيين، وسمح لهم هذا بالبقاء في السلطة لعقود، لكن السعديين كانوا خصمًا صعبًا الميراص.

معركة وادي المخازن: اعضم ملحمة التي خاضها المغاربة على مر تاريخ

 فبعد أن نجح محمد الشيخ في توسيع نطاق دولته وطرد البرتغاليين من معظم المدن الساحلية المغربية، قام بالقضاء على الوطاسيين المدعومين من العثمانيين في شمال المغرب ورفض مبايعة السلطان العثماني سليمان القانوني كأميراً للمؤمنين والدعاء باسمه على منابر المغرب، على غرار ما كان يفعله الوطاسيون، ليصبح أول سلطان سعدي يحكم المغرب.

اغتيال محمد الشيخ وتولي عبدالله الغالب العرش

كان لمحمد الشيخ 3 أبناء: عبد الله الغالب، عبد الملك، وأحمد المنصور. منذ سن مبكرة، أظهر جميع أبنائه الثلاثة إمكانيات استثنائية لحكم الدولة وللقيادة العسكرية، لكن السلطان محمد الشيخ تم اغتياله على يد العثمانيين عام 1557.

معركة وادي اللبن 

 وتولى ابنه الأكبر عبد الله الغالب العرش، واستمر في حكم المغرب لمدة 17 سنة، معززًا فيها أمجاد والده ومدافعًا بنجاح عن المملكة ضد البرتغاليين والإسبان، ووضع حدًا للطموحات العثمانية في المغرب. 

جاءت معركة وادي اللبن لتكون نقطة تحول بارزة، حيث تمكن الجيش المغربي بقيادة السلطان عبد الله الغالب من تحقيق نصر ساحق على الجيش العثماني.

معركة وادي المخازن: اعضم ملحمة التي خاضها المغاربة على مر تاريخ

 هذا الانتصار العظيم عزز مكانة المغرب في عهد الدولة السعدية كقوة إقليمية تثير الهيبة لدى كل من العثمانيين والإيبيريين، على الرغم من التحديات الداخلية التي كانت تواجهها المملكة في ذلك الوقت.

وفاة عبد الله الغالب وتولي محمد المتوكل

أصبح المغاربة الآن ينظرون إلى السعديين كأبطال، لكن في عام 1574 توفي السلطان عبد الله الغالب وتولى ابنه محمد المتوكل العرش، وواجهت المملكة أول أزمة لها. عندما تولى السلطان الراحل عبد الله الغالب العرش قبل 17 عامًا، هرب شقيقاه عبد الملك وأحمد المنصور من المغرب خوفًا من أن يتم اغتيالهما.

أجبر الأمير عبد الملك البالغ من العمر 15 عامًا وأحمد المنصور البالغ 8 أعوام على البحث عن ملجأ، وانتهت بهما الرحلة في مدينة الجزائر التي كانت تحت الحكم العثماني.

من هناك، بعد بضع سنوات، سافر الأخوان إلى مساحات شاسعة من الإمبراطورية العثمانية الواسعة واكتسبا خبرة قيمة بالإضافة إلى التعليم والتدريب. شارك الأميران وتميزا في معركة "ليبانتو" عام 1571 وتطوعا للمشاركة في استعادة تونس عام 1574.

 هذه الروح القتالية هي التي لفتت انتباه السلطان "مراد الثالث" الذي سعى إلى توسيع النفوذ العثماني في المغرب، وعرض على عبد الملك أن يزوده بالرجال والمال والذخيرة لمساعدته لاسترداد العرش السعدي. في المقابل، وعد عبد الملك بدفع 15 طنًا من الذهب كتكريم وأن يؤجر ميناء العرائش للأسطول العثماني.

تحالف عبد الملك مع العثمانيين

ان الحصول على مثل هذا الميناء الكبير والمصمم جيدًا على المحيط الأطلسي من شأنه أن يسمح للإمبراطورية العثمانية بالتغلب على إسبانيا في النزاعات البحرية المستقبلية. لكن الطرفين اتفقا على تأجيل هذا المخطط لأن عبد الملك لا يريد أن يعادي إسبانيا في الوقت الراهن، ويهدف أيضًا إلى منع المغرب من أن يصبح محمية عثمانية. فبعد أن انتصر على محمد المتوكل في "معركة الركان" قرب فاس عام 1576، نجح في إقناع القوات العثمانية بمغادرة بلاده مقابل دفعه مبلغًا كبيرًا من الذهب.

كان عبد الملك يعلم جيدًا أن الإمبراطورية العثمانية لن تقامر مجددًا هذه المرة في محاولة غزو المغرب خوفًا من قيام تحالف مغربي إسباني. فقد اتقن السعديون لعبة السياسة والتحالفات الدولية.

غزو البرتغاليين للمغرب

وقد خاض عبد الملك 24 معركة ضد المتوكل خلال سنتين انتصر فيها جميعًا، مما أدى في النهاية إلى فرار محمد المتوكل إلى سبتة وبعدها إلى طنجة مستنجدا بالبرتغال بعد أن رفض ملك إسبانيا معونته. 

كانت مفاجأة سارة بالنسبة "لسباستيان" الذي بدأ الاستعدادات على الفور، وأصبحت له الآن ذريعة لغزو المغرب وقهره تحت غطاء مساعدة حليفه محمد المتوكل لاستعادة عرشه، بالإضافة إلى أنها كانت فرصة ذهبية للتوغل في المغرب ومنع الجيش العثماني من الوصول إلى المحيط الأطلسي، الذي قد يسمح لهم بتهديد أمن الساحل البرتغالي ومعاقلهم في غرب أفريقيا، فضلاً عن انتشاراتهم التي لا تقدر بثمن في جميع أنحاء المحيط الأطلسي.

معركة وادي المخازن: اعضم ملحمة التي خاضها المغاربة على مر تاريخ

استعدادات سباستيان للحملة العسكرية

أصبح سباستيان، البالغ 24 عامًا، ملكًا للبرتغال في سن الثالثة، وتربى تربية دينية على مبادئ الرهبنة اليسوعية التي غرست فيه الرغبة العنيفة في غزو المغرب وتحويل سكان شمال أفريقيا إلى المسيحية وكسب الأمجاد للبرتغال. كما أنه كان طفلًا مندفعًا ومولعًا بالمعارك العسكرية، فقد تم تدريبه في سن مبكرة على رماية الرمح وركوب الخيل والمبارزة بالسيف.

وفي يونيو عام 1578، حضر سباستيان في كاتدرائية لشبونة حيث قدم له زي عسكري مطرز "بتاج إمبراطوري". أصبح سباستيان الآن مستعدًا لشن حملته الصليبية في المغرب.

 أبحر الجيش البرتغالي الذي كانت أعداده 23,000 جندي على متن أسطول مكون من 500 سفينة في اتجاه المغرب، وشمل الجيش البرتغالي 2,000 فارس برتغالي وحوالي 8,000 من المرتزقة، معظمهم من الألمان والقشتاليين والإنجليز والإيطاليين، بالإضافة إلى فرقة مشاة بابوية مع نواة الجيش التي تتألف من القوات البرتغالية والمورية، بالإضافة إلى قوات المتوكل التي كانت تقدر 500 فارس.

القتال في المغرب

وصل الجيش إلى اليابسة بالقرب من قلعة أصيل البرتغالية في 12 من يوليو، وفي اللحظة التي وصل فيها سباستيان إلى اليابسة لاحظ وجود كتيبة مغربية في التلال القريبة. على الفور، قام بتجميع فرقة من الفرسان وسارع في مطاردة العدو دون انتظار بقية جيشه. وبعد مدة، توقف سباستيان عن المطاردة وقرر إنشاء معسكر قرب مدينة أصيلة، واستغرق الجيش البرتغالي شهرًا كاملاً في إنشائه.

أما عبد الملك فكان يستعد لمقاومة هذا الغزو مدار 18 شهرًا الماضية، وبمجرد علمه بأن الأسطول الصليبي غادر لشبونة قبل شهر واحد، استدعى قبائل المغرب للدفاع عن شعبهم وعائلاتهم ودينهم. استجاب العشرات الآلاف من المحاربين من جميع أنحاء البلاد لدعوة السلطان عبد الملك، وتوحدت صفوف المغاربة لمواجهة هذا الخطر الخارجي.

الرسائل بين عبد الملك وسباستيان

كتب عبد الملك السعدي الرسالة الأولى إلى سباستيان قائلاً: 

 وانطلت الحيلة على سباستيان المغرور فثبت في مكانه ورفض نصيحة جيشه بالتقدم نحو تطاوين أي (تطوان) والعرائش والقصر الكبير ليجمع ما فيها من العدة ويتقوى بما فيها من الذخائر. بقيت القوات البرتغالية بضواحي أصيلة حتى 28 من يوليو.

وفي نفس اليوم، وصل السلطان عبد الملك من مراكش إلى "وادي المخازن" وكتب عبد الملك لسباستيان ثانية قائلاً: 

وكانت الغاية من هذه الرسالة استفزاز سباستيان واستدراج الجيش البرتغالي إلى عمق الأراضي المغربية والابتعاد عن قواعده ومراكز تموينه، ليسهل القضاء عليه.

معركة وادي المخازن

وقع سباستيان مرة أخرى في فخ عبد الملك، وبالفعل في اليوم 3 من أغسطس، قامت القوات البرتغالية بالزحف نحو الداخل إلى أن وصلت إلى وادي المخازن، وعبرت جسر الوادي. هناك أقام البرتغاليون معسكرًا قبالة الجيش المغربي، وفي جنح الظلام من تلك الليلة، أمر عبد الملك أخاه أحمد المنصور بنسف جسر وادي المخازن، وكان هذا الجسر المعبر الوحيد للوادي.

وهكذا قطع عبد الملك خط الإمدادات على الجيش البرتغالي وطريق الهروب الوحيد لسباستيان. أما في الجهة المقابلة، فتجمع جيش من حوالي 50,000 جندي مغربي ضواحي مدينة القصر الكبير بقيادة عبد الملك وأخيه أحمد المنصور.

غدًا ستبدأ المعركة.

تعليقات