جامعة القرويين: أقدم جامعة في العالم ومصدر فخر للتراث الإسلامي

عندما تسير في شوارع مدينة فاس المغربية، وتحيط بك روائح التاريخ وأصوات المدينة القديمة، تجد نفسك في مكان يشع بالعلم والثقافة، إنه جامعة القرويين. إنها أكثر من مجرد جامعة؛ إنها مركز تاريخي يجسد التراث العلمي والثقافي للعالم الإسلامي. تقع هذه الجامعة في قلب مدينة فاس، وقد أسست منذ ما يزيد عن 1160 عامًا، لتظل واحدة من أقدم وأهم الجامعات في العالم.

جامعة القرويين ليست مجرد مؤسسة تعليمية فحسب، بل هي شاهد على عظمة حضارة الإسلام وحضورها في مجال العلوم والفنون. فإذا كنت تتساءل ما الذي يجعل هذه الجامعة تتفرد عن غيرها، وكيف أسهمت في تطور الفكر العلمي في العصر الوسيط، تابع معي هذه الرحلة التي تأخذك إلى أقدم جامعة في العالم.

ما هي جامعة القرويين؟

مركز علمي حضاري

تُعد جامعة القرويين واحدة من أقدم الجامعات في العالم التي تعمل بشكل مستمر منذ تأسيسها في 859 ميلادي. كانت القرويين في البداية مجرد مسجد صغير، لكنها سرعان ما تحولت إلى مركز علمي وديني يعج بالطلاب من مختلف أنحاء العالم. في بداية نشأتها، كانت تعتمد في تعليمها على الشريعة الإسلامية والفقه، وهو ما يعكس ارتباطها العميق بالدين الإسلامي. لكن مع مرور الزمن، توسعت لتشمل العديد من العلوم الإنسانية والطبيعية.

قد تكون الجامعة معروفة عالميًا بفضل هذا الإرث العلمي والثقافي، لكنها أيضًا تمثل إرثًا عميقًا في تاريخ الفكر الإنساني. فالقرويين لم تكن مجرد مكان للدراسة الدينية فحسب، بل كانت أيضًا معقلًا للفكر الفلسفي والرياضي والعلوم الطبية.

موقعها الجغرافي في قلب فاس

تقع جامعة القرويين في قلب المدينة القديمة فاس، التي تُعد مركزًا حضاريًا وثقافيًا هامًا. تاريخ المدينة يمتد لقرون طويلة، وكانت في العصور الوسطى تمثل العاصمة العلمية والثقافية للمغرب. هذه المدينة، التي استقبلت العديد من العلماء والمفكرين من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، هي الآن موطن لأحد أقدم الجامعات في العالم. إذا كنت ترغب في زيارة فاس، ستجد أن جامعة القرويين هي نقطة جذب رئيسية، حيث يلتقي التاريخ مع الحاضر في كل زاوية.

البدايات الأولى للجامعة

السياق التاريخي لفاس في القرن التاسع الميلادي

شييدت مدينة فاس على يد الدولة الادريسية في القرن التاسع الميلادي، وكانت المدينة في أوج ازدهارها، وهي المدينة التي نشأت فيها العديد من المشاريع العلمية والثقافية. كانت فاس مركزًا علميًا لا يُضاهى، حيث كانت المساجد والمدارس العلمية تشهد توافد العديد من العلماء من كافة أرجاء العالم الإسلامي. في ذلك الوقت، كانت القرويين تسهم في تدريب علماء في مختلف المجالات مثل الفقه والطب والفلك. كما أن المدينة كانت تفتح أبوابها للمسلمين وغير المسلمين على حد سواء، مما جعلها مركزًا للتعددية الثقافية والفكرية.

فاطمة الفهرية: مؤسسة الجامعة

كانت فاطمة الفهرية، امرأة من أصول مغربية، وراء إنشاء هذا المعهد العلمي العظيم. ولدت فاطمة في مدينة فاس في بداية القرن التاسع، وكان والدها من التجار الأثرياء في المدينة. بعد وفاة والدها، قررت فاطمة استخدام الميراث الذي تركه لها لبناء هذا المعهد العلمي، وكان هدفها هو نشر العلم والمعرفة بين الناس. قامت بتأسيس جامع القرويين في عام 859 ميلادي، والذي تحول لاحقًا إلى جامعة، حيث بدأ الطلاب من مختلف أنحاء العالم يتوافدون لدراسة فيه. ورغم أن هذا القرار كان جريئًا في ذلك الوقت، إلا أن فاطمة الفهرية أصبحت رمزًا للعلم والتعليم في العالم الإسلامي.

الدور التعليمي لجامعة 

العلوم التي احتضنتها القرويين

منذ تأسيسها، كانت جامعة القرويين مكانًا لدراسة العلوم الإسلامية الأساسية مثل الفقه والتفسير، إلا أن الجامعة سرعان ما توسعت لتشمل العديد من التخصصات العلمية الأخرى. كان الفلك، والطب، والرياضيات، والفلسفة، من بين المواد التي كانت تُدرَّس في هذه الجامعة العريقة. كانت جامعة القرويين تحتضن مجموعة من العلماء والمتخصصين الذين أسهموا في نشر هذه العلوم ليس فقط في العالم الإسلامي، ولكن أيضًا في أوروبا.

في مجالات العلوم الطبيعية، كانت القرويين تشهد حضورًا مميزًا من علماء الفلك والطب الذين قدموا إسهامات عظيمة في مجالاتهم. فمثلًا، قام بعض العلماء بتطوير أدوات فلكية متقدمة، بينما قدم أطباء الجامعة العديد من العلاجات المستندة إلى المعرفة الطبية المتقدمة آنذاك. 

أشهر العلماء الذين تعلموا أو درَّسوا في القرويين

من بين الشخصيات الشهيرة التي درست في القرويين أو كانت لها علاقة بها: ابن خلدون، مؤرخ وفيلسوف قرر أن يضيف لكتابه "المقدمة" الكثير من المعرفة التي استفاد منها أثناء دراسته في القرويين. كما أن ابن رشد، الفيلسوف والطبيب المعروف، كان له أثر عظيم في نشر الفلسفة والعلم في أوروبا بعد تعلمه في هذه الجامعة. كان هؤلاء العلماء وغيرهم من المفكرين يتبادلون الأفكار ويتعاونون في مجالات الفقه والطب والفلسفة، ما جعل القرويين نقطة تلاقٍ رئيسية للعلماء من مختلف الخلفيات الثقافية والدينية.

تأثير القرويين في النهضة الأوروبية

جامعة القرويين لم تكن مجرد مؤسسة تعليمية محلية، بل كان لها تأثير كبير على الفكر الغربي. كان العديد من المفكرين الأوروبيين يتوافدون على فاس للدراسة في هذه الجامعة، مما ساعد على نقل المعرفة العلمية والتقنية إلى أوروبا، لاسيما في فترة العصور الوسطى. الفلك، الرياضيات، والفلسفة التي تعلمها علماء أوروبا في القرويين كانت أساسًا لما نعرفه الآن عن النهضة الأوروبية. يُعتقد أن بعض مفكري عصر النهضة، مثل روبرت جرادويان وآخرين، تأثروا بشكل كبير بما تعلموه في فاس، مما ساعد على تطور الفكر الغربي.

روعة العمارة في جامعة القرويين

تصميم المسجد

يعد جامع القرويين واحدًا من أروع الأمثلة على العمارة الإسلامية في المغرب. تصميم المسجد يتميز بالعناصر المعمارية المميزة مثل القباب المزخرفة، والمحراب المزين بالفخار والنقوش الإسلامية التقليدية. تعكس عمارة المسجد في تصميماتها التوازن بين الجمال الوظيفي والروحي. يتجسد هذا التوازن في المساحات الواسعة التي تسهم في خلق أجواء هادئة تساعد على التأمل والدراسة. من داخل المسجد، يمكنك رؤية المساحات الواسعة التي تتسع للعديد من الطلاب والباحثين في وقت واحد.

مكتبة القرويين: كنز المعرفة

تعتبر مكتبة القرويين من أقدم المكتبات في العالم، حيث تحتوي على العديد من المخطوطات النادرة التي تحوي نصوصًا علمية وتاريخية مهمة. تتميز المكتبة بتصميمها الفريد، الذي يعكس طابعًا من الانفتاح على الحضارات الأخرى. تحتوي المكتبة على مخطوطات نادرة تمثل مختلف التخصصات العلمية والدينية. وقد خضعت المكتبة في السنوات الأخيرة لعملية ترميم شاملة لحمايتها من عوامل الزمن.

جهود الترميم للحفاظ على التراث

من أجل الحفاظ على هذا الإرث العظيم، قامت السلطات المغربية في السنوات الأخيرة بإطلاق مشاريع لترميم مباني جامعة القرويين ومسجدها. الهدف كان الحفاظ على المخطوطات النادرة والحفاظ على العمارة الإسلامية الفريدة التي تميز هذا الصرح الثقافي. وبفضل هذه الجهود، تمكنت القرويين من الحفاظ على مكانتها كأحد أبرز المعالم الثقافية في العالم الإسلامي.

جامعة القرويين اليوم

مكانة الجامعة في العصر الحديث

في العصر الحديث، جامعة القرويين تستمر في تقديم برامج أكاديمية متطورة، حيث تم دمج التعليم التقليدي مع المناهج الحديثة. تسعى الجامعة إلى الحفاظ على إرثها العلمي والتاريخي مع مواكبة التطور في مختلف التخصصات العلمية. رغم التحديات التي تواجهها، تظل القرويين واحدة من الجامعات التي تسهم في نشر العلم والتعليم في المغرب والعالم العربي.

الاعتراف الدولي بأهميتها

تم الاعتراف بجامعة القرويين دوليًا كأقدم جامعة في العالم، وهي واحدة من المؤسسات التعليمية الرائدة في مجال التعليم العالي. حصلت على العديد من الجوائز والشهادات التقديرية من المنظمات العالمية، بما في ذلك تسجيلها في موسوعة غينيس للأرقام القياسية. وتعد  اليوم نقطة جذب أكاديمية وثقافية لعشرات الآلاف من الزوار والمثقفين من مختلف أنحاء العالم.

زيارة  القرويين: تجربة لا تُنسى

زيارة جامعة القرويين ليست مجرد تجربة سياحية، بل هي رحلة عبر الزمن. عندما تطأ قدماك أرض هذه الجامعة، ستشعر بأنك تسير في دروب التاريخ التي خطها العلماء والمفكرون على مر العصور. إن الجدران التي تحمل بين طياتها مئات السنين من المعرفة، ما زالت تنبض بالحياة، وتستمر في تقديم العلم والقدرة على التفكير النقدي.

إذا كنت من عشاق التاريخ، أو من الباحثين في مجال العلوم، فإن زيارة جامعة القرويين ستمنحك تجربة ثقافية وعلمية لا تُنسى.